آخر تحديث: الاثنين 9 تشرين الثاني 2020 - 02:16 PM إتصل بنا . خريطة الموقع . ابحث:




مختارات

هادئاً يمضي الدون - سمير عطالله (النهار)

الأربعاء 8 شباط 2012

تمضي العمر في الكتابة عن جميع الناس، في كل الأحداث، في مختلف القضايا، وفجأة يقف شامخاً نسيب لحود على تلة الغياب: ماذا يمكن ان تكتب في هذا الوداع؟ كيف تختصر 43 عاماً من المودة؟ وأيهما كان أكبر، اعجابك أم محبتك؟ هل تعتقد انه يحق لفرد، أو لأحد ان يدعي لنفسه الحزن الأخير؟ ألم أكن هذا دوماً، مذ عرفتني، أيام ذهبيات لبنان، رجلا كأنني جماعة، مواطناً كأنني سور، وهدوءا كأنني قلعة؟
هذا ما يحدث في غياب نسيب لحود كما في حياته: المسافة الساحرة التي تجعله يبدو، في اقصى لحظات المودة، انه، خلافا لفرديتك وضعفك، مجموعة اجتهادات واحلام وسعي وتطلع. لا نافذة للتكاسل في حياته. تساؤل هادئ رفيع ودائم، عما يمكن ان يعمل من اجل لبنان. ماذا يجب ان يتوافر لرفع الشعب الى مستوى الوطن. لا تكون هناك جلسة في حضوره، الا والحاضر الاول لبنان، ليس كأسير أو جريح، او معذب، او عظيم الخيبة بأهل وانما كوطن له غد وكرامة مستعادة وحري بالحلم.
بنى لنفسه يوتوبيا رفض الخروج منها او المساومة عليها. كان يردد قاعدة غاندي، ان التسوية اخذ وعطاء، وإلا كانت استسلاما مقنعا بمساحيق مضحكة. ولم يكن يقبل، بأي ثمن، ان تمر لحظة يكون فيها تاريخه الوطني مضحكا، او قابلا لغير تفسير واحد.
في البلدان الهزيلة، السياسة قائمة على التنازل والمقايضة والهرب بالمكاسب. هو، بيته في رأس القلعة. لم يكن يقاتل ولا كان يحارب. لكنه ايضا لم يكن يتنازل، او يتراجع، او يساوم. لا مساومة في الجوهريات، يقول غاندي.
رسم نسيب لحود لنفسه خطا مستقيما احتمى به. وترك للناس ان تأتي اليه او ان تذهب عنه حيث تشاء. وكان يعرف ان الخيار صعب والنفوس البشرية هلامية. لكنه لم يتذمر. لم يأخذه الربح ولم تهدّه الخسارة. هو، قناعته، لا عناده، الخط المستقيم. لن يخرج من هناك الى حضارة الزلاغيط في سبيل اي احد او اي شيء. نقطة الارتكاز هي احترام الذات، ومهرج من يربح العالم ويخسر نفسه. على ما قال ذات بدء، نجار الناصرة، المولود في مغارة على مدخل بيت لحم.
كان الرئيس الياس الهراوي يروي انه عندما عينه سفيراً في واشنطن تأخر في الحضور. ولما عاتبه اجاب: لا يجوز ان اصبح سفيرا قبل ان اتحرر من آخر التزاماتي الخاصة. وعندما استقال من السفارة وجاء الى لبنان لخوض معركة النيابة ثم الرئاسة، تخلى عن كل عمل. او شبهة عمل.
بدا نسيب لحود في مكتبه في سن الفيل مثل رجل يعيش في العصر الفيكتوري. مبنى ضخم، فارغ، لا حركة فيه الا حركة الرفاق والاصدقاء. وحركة "الفريق". فلم يتصرف الا على ان العمل السياسي عمل فريق لا فرد، وان العمل الوطني، في اعلى مراتبه، اصغاء لا ثرثرة. واما الشرط الآخر، اي الخُلق، فكان مولودا فيه، وكان سيفه وترسه، فهو رابح اذا ربح، ورابح اذا خسر. لأنه أنبل من الخصم.
قد أكرر هنا، عن غير قصد، مع الاعتذار، بعض ما كتبت من قبل. ليس لأهمية ذلك بالنسبة اليه، وإنما بالنسبة إلي. فعندما قرر العودة الى لبنان، التقينا، ربما، في أطول وأعمق غداء خاص. وقلت له ما خلاصته: بعد وفاة ريمون اده، انت الشبه الاخير. دعك من السياسة المحلية. فأنت مثال لا يطاق. نظافتك لا تطاق. نزاهتك لا تطاق. مناعتك لا تطاق. انت النقيض الذي يذكّر الآخرين بكل ما يحاولون اخفاءه. انت رجل بلا سجل عدلي، في بلد خارج من حرب، وداخل على مناقصة. لا مكان لك. ومثل ريمون اده لن تصل. لذلك افعل ما فعله ريمون اده. كن الرئيس غير المنتخب. الماروني الانتي – مارونية. المسيحي الذي يقدر المسلمون خصومته وليس نفاقه.
المسلمون يشعرون ان الطريق معك طويلة، لأنك رجل مبدأ لا جندب.
ضحك طويلا. قال ماذا تعني "جندب"؟ قلت هو القبوط. كائن لا يستطيع الارتباط بالارض. دائما يقفز الى مكان آخر! قال: "هذه لا تلغي تلك. العمل السياسي الصغير طريق الى العمل السياسي الكبير، ثم ان هذه منطقتي وأرض ابي. لا خيار لي في الامر. هذه طريق رسمها سليم لحود، وهي امانة لا خيار. الانسان لا يختار قدره".
لم أغيّر اقتناعي. هو الذي يسأل، انا الذي يجيب. عدت أقول له: عالم سليم لحود لم يعد موجوداً. وهذا الجيل لا يذكره ولا يعرف شيئا عن قيم الماضي. سليم لحود كان يشكل اللائحة الانتخابية، الآن لم يعد احد منا يعرف أين تشكل. دعك من السياسة واطرح نفسك كضمير وطني. الاوادم المتبقون في هذا البلد ليسوا في حاجة الى ذوي مناصب، فهم يعرفون حقائقها ومداركها. لم يعودوا يريدون شيئا، سوى سياسيين لا يريدون شيئا. سوف تصاب بخيبة. وسوف تكون خيبة الآخرين بخسارتك بلا تعويض.
لم أكن سعيداً على الاطلاق، بأنني أنا من ربح الرهان، فمع نسيب لحود لا يربح أحد. فقد كان، بسلوكه وسيرته، مثل قلعة محفورة في صخر، لا مبنية عليه، قوته في داخله، في صمود لم يعتده اللبنانيون، وكنزه لم يكن ثروته المالية التي لم يتبجح بها ولم يعرف احد عنها شيئا، بل كان في عنفوانه الوطني الذي جعله دوما في مرتبة عليا وموقع نادر. بيوريتاني من العصر الفيكتوري.
لا يعني هذا انه لم يكن واقعيا، او كان جاهلا، او رافضا لوقائع لبنان. في ذلك لم يكن مثل ريمون اده. إما أسود، وإما أبيض، أو لا شيء. بل كان يعتقد ان تقليل الضرر هو ايضا انجاز. وان احترام النفس هو في نهاية الامر احترام السيادة، وان معرفة حدوده (ومعرفة مداها ايضا) تسهل على الآخرين معرفة مداهم كذلك.
ليس لنسيب لحود تجربة سياسية صاخبة نتحدث عنها. فعندما بدأ العمل السياسي سبقته الحرب. والحرب لم تكن خياره. ولا حتى المعركة. ولعله أقرب إلى فؤاد شهاب منه الى ريمون اده، في فصل السياسة عن المال. كانت شركته، بإدارة شقيقه سمير، تبني وتعمّر في الخليج وافريقيا، اما هنا فقد منع عليها ان تدق مسمارا واحدا. هنا جمع حوله حكمة ذوي التجارب مثل سهيل شماس، ونبض الشبان مثل غسان سلامة ونواف سلام ونواف كبارة وآخرين من ذوي الرؤية والحصافة الاخلاقية.
آخر رجال العصر الفيكتوري. كان يسمي فؤاد شهاب التزام هذا السلوك المثالي "الكتاب". ولا يقصد به الدستور والنص والقانون، بل ما هو ابعد، اي ما تصبو اليه روح الدستور والقوانين. هو العصر الذي اصبحت فيه العائلات الكبرى، في خدمة البسطاء لا في خدمة الاريستوقراطية. العصر الذي تكاتف فيه الذين يملكون على اعانة الذين لا يملكون. العصر الذي آمن فيه السياسي انه لسواه، وليس لنفسه، لأن كبره بصلاحه. بما ينحت من مرتبة لا بما يوسّع من حفر ودوائر.
اختلطت قيم الثورة الفرنسية بالدماء والعنف وامحاء القانون. اما الفيكتوريون المجاورون فأقاموا الثورة الصناعية التي بدأت تحرير الفلاح والعامل من اثقال وأحمال البحث عن الرغيف في قاع الارض او قاع البحر. لم يكن نسيب لحود وحيدا بادئ الامر. فقد ورث جيله الكثير من قيم الآباء وسلوكهم. وأفاقوا على بلد يمكن فيه الشاب ان يحلم. وكان هؤلاء يشكلون عصبة وسطية راقية، لا تنتمي الى الايديولوجيات المتضاربة، القائلة بالعنف، وانما الى مجموعة افكار متجانسة، منتجة، مجتهدة، تبحث عن نقاط الالتقاء لا عن مواقع السيطرة. لذلك مرّ في حياتنا الصاخبة هادئا كالدون الهادئ، كما في رواية شولوخوف. لا مواكب لا معارك لا مطالب. لا لجوجات لا مظاهر لا سخافات لا حشريات لا سفاهة لا سفسطة لا اعتداءات لا افتراء لا شتائم.
هادئاً، يتدفق الدون، كان يكره الصخب والزعيق. علّمه سليم لحود ان يلتزم الرياضيات: كل مشكل لها معطيات، وكل قضية لها حل، والقاعدة لا تتغير مع اي متغير: اقصر الطرق الى اي شيء هو الخط المستقيم. وعلّمه ان ليس للطرق بدايات ولا نهايات. لا الربح بداية لأن فيه طعم الغرور والغرور أعمى، ولا الخسارة نهاية، لأن فيها طعم الامثولة ودرس الخطأ لتقصي الصواب. الطرق ايضا مثل الأنهر مثل الدون. هادئة تنساب، لئلا تفزر الأرض أو تعطب الضفاف.
كلنا نعتقد ان تلك المناعة الخلقية المدهشة، جسمانية ايضا. أو على الاقل كنا نتمنى. ففي قلوبنا خوف من انه اذا غاب ففي غيابه شيء من الختام. مثل هؤلاء الرجال يأخذون معهم عصورهم، ومثل الالماس الازرق لا يقلّدون.
يخجل الاحباء من قول المشاعر كما هي. كم كنت باسقا وشامخا وأنوفا وأليفا وهادئا. تتدفق كالدون. كالدون هادئا مضيت.
 


أرشيف    إطبع     أرسل إلى صديق     تعليق



عودة إلى مختارات       عودة إلى الأعلى


2024 حركة التجدد الديمقراطي. جميع الحقوق محفوظة. Best Viewed in IE7+, FF1+, Opr7 تصميم: