آخر تحديث: الاثنين 9 تشرين الثاني 2020 - 02:16 PM إتصل بنا . خريطة الموقع . ابحث:




مختارات

نسيب لحود: وقسوة الرحيل - المهندس محمود الاحمدية (الشراع)

الاثنين 20 شباط 2012

(تمسك بالايمان، ايها القلب الشجاع، استيقظ من النوم، من فتور اليأس، واستقبل بالأغاني، نور الفجر الجديد). (طاغور).


وكأني بطاغور هذا الشاعر الذي يختصر أمّه، وبهذه الصورة الروحانية الايمانية المشرقطة بكل ألوان الطيف والحياة والحق والجمال، يتوجه الى شعب بأكمله بكى بالأمس وبصدق وحرقة ذلك الذي جعل للأخلاق مقاماً ولصورة رجل الدولة مقاماً، ولاحترام النفس مقاماً، وللنظافة يداً وايماناً مقاماً، ولحب الاوطان مقاماً، وللروح النضالية العابقة بالاستقامة والرفعة والرزانة مقاماً.. قصدت به فقيد الانسانية نسيب لحود..
في الوقت الذي انحدر فيه الخطاب السياسي الى درجة لا يمكن تخيّلها، في الوقت الذي أصبح فيه الضمير شبه معدوم، في الوقت الذي سادت فيه سياسة اللامنطق واصبح الوطن مجموعة جزر متباعدة وأصبح فيه الشعب شعوباً، في الوقت الذي راجت فيه رائحة الدولار لتزكم الانفاس وتشتري الرجال وتتجسد جثثاً فيها بقية روح تمشي على طريق الظلال، كنت يا شيخ نسيب ايها الغائب الحاضر الصوت الهادىء الراقي المتزن، وقفتك عام 1995 في مجلس النواب محطة من محطاتك الوطنية الخالدة، يوم اعتليت المنبر وقمت بمطالعة تاريخية يجب ان تشكل درساً لأجيال قادمة، وكانت رحلة في تاريخ هذا الوطن النموذج الرسالة على مقياس فكرك الدامغ، كنت تقول: هذا المجتمع المتنوع هو مصدر غنى للبنان، ووضعت احصائيات تثبت ان شعباً عدد الجامعييين فيه يناهز خمس سكانه، وعدد مذاهبه يربو على السبعة عشر، بتاريخها، بعاداتها، بتقاليدها، شعب اضعاف اضعافه في الخارج يمتلكون كلّ اسباب الابداع والنجاح والرفعة في اربع رياح الارض، هو شعب يجب أن يعيش تحت الشمس.. يجب ان يبقى الخزّان الحضاري الثقافي للعرب.. مسلموه ومسيحيّوه جناحان يجب ان يحلّق بهما النّسر في كل آفاق الدنيا! فكيف بالافق اللبناني! والايمان ليس عنفاً ولا تعصباً ولا انكماشاً على الذات، ولا احتكار الله والسماء، انما هو انفتاح على السويّ واقتسام الله والسماء مع البشر، اياً كان الدين الذي يعتقدون! سبحان الله... مجلس النواب بأكمله كان يتابع بشغف وإنصات واحترام كل كلمة وكل جملة تفوهت بها.. لأنك فرضت احترامك على الخصم قبل الصديق..
في احدى طلاتك على احدى الفضائيات سجّلت قولاً خالداً يتوخّى الثقافة قبل العلم ويشدد على تربية الاجيال الجديدة بروح المسؤولية: ((انما العلم العميم الذي لا يدعمه الخلق الكريم لأشد خطراً على صاحبه والناس من القنبلة في يد الطفل)).. تخيّلتك بهذه الجملة تتوجه الى أجيال متعلمة ولكن تنقصها الثقافة والتربية.. جميل كلامك في المقابلة نفسها: ((انه لمن السخرية ان تكون لنا في لبنان وزارة تدعى وزارة التربية والفنون الجميلة، وان نرى معظم مدارسنا تهتم بكل شيء الا بالتربية !)).
الانسان الصالح كالخميرة، اذا اختلطت بالدقيق جعلت الكل صالحاً وعندما يكون الانسان صالحاً يشع صلاحه الى الخارج كالشمس تماماً تضيء لأنها خزان اضواء.. هكذا كنت في ((قرنة شهوان)) وفي ((ثورة الارز)) وفي ((رؤيتك للجمهورية)) التي اعلنتها في 13 ايلول/ سبتمبر 2007، كبرنامج هادف لمرشح لرئاسة الجمهورية..
عدم ازعانك لإرادة الآخرين، وثباتك في مواقفك، ونزاهتك التي جسدتها بكشف كل حساباتك امام الشعب قبل النيابة وأوقفت اعمالك في لبنان حتى لا يمتزج العام بالخاص، كلها منارات أبعدتك عن مركز رئاسة الجمهورية الذي يتقنه دهاقنة السياسة والسياسيون..
وفي زمن الربيع العربي حيث وللمرة الاولى ترتجّ زوايا الامة بأصوات الاحرار وينكفىء الطغاة والشعبويّون، ويزدهر شباب حمل الرسالة على منكبيه وكأنه ينادي مجد الاندلس والتاريخ العروبي، دفع الدم والدموع، وأحرق جسده ايماناً بقدسية الحرية والكرامة، كنت سبّاقاً في الاحتضان والاعتزاز بالربيع اللبناني الذي فجّر ثورات الربيع العربية وحبّذا لو لم يكن رحيلك الدامع باكراً ورأيت بأم العين كل الربيع العربي ينتصر ويزهو.. انه ربيعك بامتياز.. يقول كمال جنبلاط : ((الارتقاء الحقيقي للانسان يقوم في هيمنة شرعة الاخلاق وقيم العدالة والاخوة والمحبة والمساواة الوظيفية عليه وعلى اترابه)).. فكأن المعلم يتأملك من عليائه مجسّداً لكل هذه القيم..
نسيب لحود ، ((حركة التجدد)) التي تشرفت بترؤسها كانت العنوان والرمز للبنان كما يجب ان يكون، لي فيها اصدقاء واحباء، ومن أجمل ما سمعت عن لسانك في احدى جلساتك الرؤيويّة قولك: ((لا صلاح لأمة فسدت اخلاق مسؤوليها، وهذه عبر التاريخ ماثلة لعيان من يريد ان يرى.. أفما كانت كل الامم التي اندثرت واستعبدت تمر اولاً في مرحلة تدني الاخلاق وانطلاق الشهوات عابثة بأشرف ما خلق الله في الانسان)).. عدم وصولك الى مجلس النواب عندما تخلى جزء من شعبنا عنك يشكل صورة دامغة عن فساد الأمة..
بحر دافق وشمس غاطسة في حلم المغيب، وطائر محلق من بعيد ترك وطنه وأهله وشعبه وناسه وقصد الأفق وقصد الحلم لعله يحقق في عوالم أخرى ما لم يستطع تحقيقه في وطنه. حكمة صينية رائعة تقول: ((العقول الصغيرة تناقش الاشخاص، والعقول المتوسطة تناقش الاشياء، أما العقول الكبيرة فتناقش المبادىء)).. طيلة مسيرتك السياسية كنت العقل الكبير المتنور والمبدع.
نسيب لحود.. زرعت ورحلت باكراً في لحظة مغيب دامع..
نسيب لحود أقسى ما في الحياة رحيل مبكر..
 


أرشيف    إطبع     أرسل إلى صديق     تعليق



عودة إلى مختارات       عودة إلى الأعلى


2024 حركة التجدد الديمقراطي. جميع الحقوق محفوظة. Best Viewed in IE7+, FF1+, Opr7 تصميم: