كلمة لميشال عقل في ذكرى غريغوار حداد
الجمعة 8 آذار 2019
ظاهرة إجتماعية إنمائية فريدة *
قبل وبعد وفاة الأب غريغوار كُتِبَ الكثير المميز عن تجاربه في مجلة "آفاق" الفكرية اللاهوتية 1974، ومشروعه السياسي الاجتماعي المتمثل "بالتيّار المدني" الذي أنشأه سنة 1999، وإنجازاته في أبرشية بيروت خلال ولايته الأسقفية القصيرة عليها بين 1968-1975 لاسيّما منها المتصلة بدور العَلمانيين في إدارة شؤون الكنيسة…، غير إني وجدت أن تجربته الإجتماعية خصوصاً في أبعادها التنمويّة، لم تنل حقّها من البحث والإضاءة. لذا رأيت من واجبي أن ألفُت الى هذا الحقل من تجربته الواسعة باعتبارها تجربة عملية رائدة لا تزال حيّة حتى اليوم، وظاهرة إجتماعية إنمائية فريدة في بلادنا.
وَجدتْ هذه الحركة مرتكزاتها الفكرية وفلسفتها الإجتماعية في ينابيع ثلاثة، تزامنت تدفقاتها وتقاطعت مجاريها الغزيرة في تلك المرحلة من تاريخ لبنان بُعيد إنتهاء أحداث 1958 الدامية. وهي على التوالي: أولاً الخطة الإنمائية لبعثة IRFED الشهيرة سنة 1961 بريادة الأب Lebret المؤسسة على فكرة الإنماء المتكامل والمتوازن والشامل، وثانياً مقررات المجمع الفاتيكاني الثاني 1962-1965 التي قضت بربط الكنيسة بالمجتمع إنطلاقاً من أولوية خدمة المهمشين والفقراء، وثالثاً التجارب الثورية المسيحية التي عَمَّت أميركا اللاتينية والمظللة بشعار "كنيسة ولاهوت التحرير".
الحركة الإجتماعية التي أطلقها غريغوار حداد السنة 1961 مع شلة واعية مُلتزمة من أصدقائه ومريديه الإصلاحيين من كل الطوائف والفئات والمناطق، هي حركة «لا طائفية، لا حزبية، لا فئوية، لا عنفية، لا خيرية…، تعمل الى جانب الفئات الأكثر تهميشاً في مختلف المناطق اللبنانية… همّها الأساسي الإنسان كل الإنسان وكل إنسان، تسعى الى تفعيل دور المواطن وحثّه على بناء سبل تضامن جديدة… وهي تعمل على التنمية البشرية والمحلية بالشراكة مع الجمعيات والبلديات وسائر مؤسسات المجتمع المدني ذات الصلة من أجل مجتمع أكثر عدالة وأكثر إنسانية».
تحقيقاً لهذه الأهداف النبيلة تركز النشاط وعلى مدى السنوات على محاور عدّة منها، التدريب المهني والإجتماعي بغية الحدّ من البطالة وإيجاد فرص عمل، والتأهيل الإجتماعي للفوز بمهارات التواصل والتدريب للحصول على الخدمة والحقوق… مروراً بالتدريب على الانتاج الحرفي التراثي في الأرياف وإيجاد مراكز تسويق في المدن أبرزها "المحترف اللبناني" الذائع الصيت، فضلاً عن الاهتمام بالمسنين وذوي الحاجات الخاصة والصحة والبيئة والسكن الإجتماعي والتنمية الزراعية،… شاملاً بذلك كل المناطق والفئات خصوصاً منها تمكين المرأة وصيانة حقّها في التعليم والعمل والانتاج والمشاركة. وكان لظاهرة "الأندية المهنيّة" التي تُعنى بتعليم الأطفال والصغار لاسيما منهم "المتسربين دراسياً" دور فاعل في تأهيل هذه الفئات وإعادة دمجها بالتعليم المدرسي تحت شعار "التعليم حق للجميع".
إن مراكز الحركة التي انتشرت ولا تزال في كلّ المناطق اللبنانية، من النبطية جنوباً الى عكار شمالاً مروراً بالعاصمة والجبل ومناطقهما الأكثر فقراً، وصولاً الى البقاعين وزحلة، شكّلت وتشكّل شبكات أمان إجتماعي تتسم بالعلمية والخدمة الواعية والتدريب على قواعد الحقّ والانتاج والواجب الاجتماعي والتكافل والتضامن المجتمعي الوطني… وإن فاتني فلا أنسى تجربة الحركة في السجون اللبنانية، وهي سبَّاقة رائدة ومستمرة، حيث كان ولا يزال لنشاطاتها آثار عميقة في التخفيف من آلام السجناء لا سيما منهم النساء والأحداث عن طريق تأهيلهم روحياً وإجتماعياً وتدريبهم على العمل والأمل.
هذه التجربة بل التجارب شكلت أيضاً واحات رجاء لاسيما خلال أحداث الحرب اللبنانية المأساوية 1975-1990 ، وفضاءات ليس فقط للخدمة والتدريب والإنماء، بل مساحات للتلاقي ومقاومة الحرب والعنف، وبناء ثقافة السلام والمواطنة على قواعد التنوع والوحدة والحقوق، وثقافة التنمية وعيشها في الواقع ومع الناس. وهذه التجارب رَفعت من دون أي شك مداميك صلبة للوحدة الاجتماعية والسياسية، على امتداد الوطن بكامله، متجاوزة خطوط التماس العسكرية والسياسية والاجتماعية. (أبرزها هيئة إنماء قضاء عاليه)
ولم ينحصر عمل غريغوار حداد التنموي بالبعد الميداني بل تجسّد أيضاً بمجموعة غير قليلة من المحاضرات والإصدارات التي تناولت مفاهيم وأهداف التنمية الحديثة وأبعادها، وهذا شكل منظومة فكرية صلبة لحركته ومشاريعها، التي تتقاطع بشكل شبه كامل مع مُقدمات وأهداف خطة الأب Lebret الرائدة.
من كل هذا كان لغريغوار حداد ورفاقه همٌّ واحد هو الانسان أيّ إنسان بمعزل عن عرقه أو لونه أو دينه أو طائفته وبكل أبعاده الروحية والثقافية والإجتماعية والمادية، لذا كان تنموياً بامتياز وبالتالي شريكاً للأب Lebret وجزأً من خطة IRFED بالمعنى الكامل والعملي للكلمة. وهو شكّل رافداً لمشروع الشهابية خاصةً في بُعده الاجتماعي الوطني، تحقياً لمقولة François Perroux أبي التنمية الحديثة "هدف التنمية هو الانسان كل الانسان وكل إنسان"، التي إتّخذها الأب غريغوار شعاراً لكل حياته وتجربته.
الأب غريغوار لم يكن فرداً منذ البدايات، كان حلقة وورشة ثم حركةً انطلقت من محدودية المكان والإمكان وتوسّعت بطاقات الإقناع والمثال والتواضع التي يمتلكها غريغوار حداد بإمتياز، رغم الموانع والصعوبات والمعارضة الشديدة التي وصلت أحياناً الى حدود الإرهاب الفكري والقمع الجسدي والتحريم. مع ذلك أصبحت ظاهرة لها وجودها الفعّال وآثارها في كل المناطق والبيئات وفي داخل الكنيسة عينها وبخاصة في مؤسسات المجتمع المدني والأهلي التي أمست مثالاً في العمل الإجتماعي المدني التطوعي ونموذجاً في التفكير الجَماعي وصياغة القرارات والعمل على الأرض.
رفاق غريغوار، أصدقاؤه، شركاؤه، ومريدوه باتوا كثراً وقد تنوّعت وتقاطعت مناهلهم وتجاربهم فأجمعوا على هذا الرائد الذي أقرن الإيمان بالتجربة والخدمة. أذكر منهم مارون عطاالله، جورج خضر، مكرم قزاح، موسى الصدر، سليم غزال، ميشال أسمر، كامل مهنا، حسن صعب، ندي تيّان، جوزف ولور مغيزل، يواكيم مبارك، بولس الخوري، هاني فحص، محمد حسن الأمين، صبحي الصالح، وسواهم… وقد شكّلوا معه وفي تجاربهم الخاصة، مدى الخمسين سنة الماضية، مساحاتٍ وواحات رجاء تقاطعت وتكاملت لتبث العلم والعمل والنقد والمعرفة والخدمة والوحدة من أجل لبنان حديث وعالم عربي أفضل. هؤلاء ومعهم غريغوار حداد، ولأسباب مختلفة موضوعية، لم يتمكنوا من إزالة جدران الجهل والطائفية والإقطاع السياسي والديني والإجتماعي عن كواهل اللبنانيين رغم الجهود والتضحيات الكبيرة التي بذلوها والآمال التي عقدوها. هو وفؤاد شهاب كانا في قِمَّة المعاناة والشهادة. الأول أبعدته المؤسسة الكنسية والثاني أسقطه الإقطاع السياسي الديني.
البابا فرنسيس يُعطينا اليوم الأمل والرجاء، ويرد لنا بعض الاعتبار والحقوق، ويُنصف غريغوار حداد ورفاقه، وقد عبّر قداسته عن ذلك في رسالته البابوية التي قُرأت في مراسم وداعه يوم 27/12/2015 . فمن تُراه يُعيد لهذا المُعلَّق لبنان الأمل في إعادة البناء على أسس سليمة وثابتة كمثل التي أطلقها فؤاد شهاب وشريكاه الأبوان Lebret وغريغوار؟ الجواب في الوفاء لغريغوار حداد ودعم مشروعه بكل مكوناته. «الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً». رحــم الله غريغوار حداد.
* كلمة في المطران غريغوار حداد ألقيت في ندوة "معاً نعيد البناء" بتاريخ 7/3/2019 المهندس ميشال عقل